فصل: قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)}.
التفسير:
الحكم الحادي عشر: الطلاق.
ويشتمل على أحكام أولها: وجوب العدة. واعلم أن المطلقة وهي التي أوقع الطلاق عليها إما أن تكون أجنبية ولا يقع الطلاق عليها في عرف الشرع بالإجماع وإما أن تكون منكوحة وحينئذ إما أن لا تكون مدخولًا بها ولا عدة عليه لقوله تعالى: {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فمالكم عليهن من عدة تعتدونها} [الأحزاب: 49] وإما أن تكون مدخولًا بها وحينئذ إن كانت حاملًا فعدتها بوضع الحمل قال تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق: 4] وإن كانت حائلًا فإن امتنع الحيض في حقها إما للصغر المفرط أو الكبر المفرط فعدتها بالأشهر لا بالأقراء لقوله سبحانه: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن} [الطلاق: 4] وإن كان المحيض في حقها ممكنًا فإن كانت رقيقة فعدتها قرآن، وإن كانت حرة فعدتها ثلاثة أقراء لهذه الآية، فظهر أن قوله: {والمطلقات} لا يتناول إلا المنكوحة الحرة المدخول بها كالحائل من ذوات الحيض. لا يقال: العام إنما يحسن تخصيصه إذا كان الباقي أكثر من حيث إنه جرت العادة بإطلاق لفظ الكل على الغالب لا المغلوب. فيقال: الثوب أسود إذا كان الغالب عليه السواد لا البياض. وهاهنا الباقي قسم واحد من الأقسام الخمسة فكيف يحسن إطلاق لفظ العام عليه؟ لأنا نقول: أما الأجنبية فتخرج بعرف الشرع، وأما غير المدخول بها فالقرينة تخرجها لأن المقصود من العدة براءة الرحم، وكذا الحامل والآيسة لأن إيجاب الاعتداء بالأقراء إنما يكون حيث يحصل الأقراء ولا أقراء في حقهما. وأما الرقيقة فتزويجها كالنادر فثبت أن اللفظ باقٍ على تناوله الأغلب. وإنما لم يقل وليتربصن المطلقات بل أخرج الأمر في صورة الخبر إشعارًا بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله، فكأنهن امتثلن فهو يخبر عن موجود.
وبناء الكلام على المبتدأ مما زاده أيضًا فضل تأكيد وتقوّ. ولو قيل: وليتربصن المطلقات لم يكن بتلك الوكادة وفي ذكر الأنفس دون أن يقال: {يتربصن ثلاثة قروء} تهييج لهن على التربص لأن فيه ما يستنكفن منه، فإن أنفس النساء طوامح إلى الرجال، نوازع إليهم، فأمرن أن يقبضن أنفسهن. والقروء جمع قرء بفتح القاف أو ضمها، والراء ساكنة في الحالين. وفي الصحاح بفتح القاف فقط. ولا خلاف أن اسم القرء يقع على الطهر والحيض، والمشهور أنه حقيقة فيهما. وقيل: حقيقة في الحيض مجاز في الطهر. وقيل بالعكس. وقيل: إنه موضوع لمعنى واحد مشترك بينهما إما لأن القرء هو الاجتماع ثم في وقت الحيض يجتمع الدم في الرحم وفي وقت الطهر يجتمع الدم في البدن وهو قول الأصمعي والأخفش والفراء والكسائي، وإما لأنه عبارة عن الانتقال من حالة إلى حالة وهو قول أبي عبيد، وإما لأن القرء هو الوقت. وقيل: هذا قارئ الرياح لوقت هبوبها. ولا يخفى أن لكل من الطهر والحيض وقتًا معينًا وهذا قول أبي عمرو بن العلاء. ثم إن الله تعالى أمر المطلقة بثلاثة أشياء تسمى أقراء، لكن العلماء أجمعوا على أن الثلاثة يجب أن تكون من أحد الجنسين. ثم اختلفوا فذهب الشافعي إلى أنها الأطهار، ويروى ذلك عن ابن عمر وزيد وعائشة ومالك وربيعة وأحمد في رواية. وقال عمر وعلي وابن مسعود: هي الحيض. وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى. وفائدة الخلاف أن مدة العدة عند الشافعي أقصر حتى لو طلقها في حال الطهر يحسب بقية الطهر قرءًا وإن حاضت عقيبه في الحال إذا شرعت في الحيضة الثالثة انقضت عدتها. وعند أبي حنيفة ما لم تطهر من الحيضة الثالثة إن كان الطلاق في حال الطهر، أو من الحيضة الرابعة إن كان في حال الحيض لا يحكم بانقضاء عدتها. ثم قال: إذا طهرت لأكثر الحيض تنقضي عدتها قبل الغسل، وإن طهرت لأقل الحيض لم تنقض عدتها حتى تغتسل أو تتيمم عند عدم الماء أو يمضي عليها وقت صلاة حجة الشافعي قوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق: 1] أي في زمان عدتهن. وأجيب بأن معنى الآية مستقبلات لعدتهن كما تقول: لثلاث بقين من الشهر أي مستقبلًا لثلاث. وقيل: هذا يقوي استدلال الشافعي لأن قول القائل: لثلاث بقين من الشهر معناه لزمان يقع الشروع في الثلاث عقيبه. فمعنى الآية طلقوهن بحيث يحصل الشروع في العدة عقيبه. ولما كان الإذن حاصلًا بالتطليق في جميع زمان الطهر وجب أن يكون الطهر الحاصل عقيب زمان التطليق من العدة. وروي عن عائشة أنها قالت: هل تدرون ما الأقراء؟ الأقراء الأطهار.
ثم قال الشافعي: النساء بهذا أعلم. وأيضًا التركيب يدل على الجمع. وأكثر أحوال الرحم اجتماعًا واشتمالًا على الدم آخر الطهر، إذ لو لم تمتلئ بذلك الفائض لما سالت إلى الخارج. فمن أول الطهر يأخذ في الاجتماع والازدياد إلى آخره، والآخر هو حال كمال الاجتماع فآخر الطهر هو القرء بالحقيقة. وأيضًا الاعتداد بالأطهار أقل زمانًا من الاعتداد بالحيض، فيلزم المصير إليه لأن الأصل أن لا يكون لأحد على غيره حق الحبس والمنع. ولما كانت المدة أقل كان أقرب إلى هذا الأصل وأوفق له. وأيضًا الآية تدل على أنها إذا اعتدت بثلاثة أشياء تسمى أقراء خرجت عن العهدة فتكون متمكنة من الاعتداد بالأطهار التي مدتها أقل، ومن الاعتداد بالحيض التي مدتها أكثر، فيكون الاعتداد بالقدر الزائد على مدة الأطهار غير واجب. حجة أبي حنيفة قوله صلى الله عليه وسلم: «دعي الصلاة أيام أقرائك» وقوله «طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان» ولأن الغرض الأصلي من العدة استبراء الرحم والحيض هو الذي يستبرأ به الأرحام، ولأن الأصل في الأبضاع الحرمة، وفي تقليل مدة العدة تحليل بضعها للزوج الثاني. فالتكثير أحوط ولأن إطلاق طهر كامل على بعض الطهر خلاف الظاهر، وإذا تعارضت الوجوه ضعفت الترجيحات ويكون حكم الله تعالى في كل أحد ما أدى اجتهاده إليه. وانتصاب {ثلاثة قروء} على أنه مفعول به كقولهم المحتكر يتربص الغلاء أي يتربصن مضي ثلاثة قروء. أو على الظرفية أي مدة ثلاثة قروء. وإنما جاء المميز على جمع الكثرة دو القلة التي هي الأقراء للاتساع فإنهم يستعملون كل واحد من الجمعين مكان الآخر ولهذا قال: {بأنفسهن} وما هي إلا نفوس كثيرة. وأيضًا فلعل القروء أكثر استعمالًا فنزلا القليل بمنزلة المهمل فيكون مثل قولهم ثلاثة شسوع. ثم إن أمر العدة لما كان مبنيًا على انقضاء القرء في حق ذوات الأقراء وعلى وضع الحمل في حق الحامل وكان الوصول إلى معرفة ذلك متعذرًا على الرجال، جعلت المرأة أمينة في العدة، وجعل القول قولها إذا ادعت انقضاء قرئها في مدة يمكن ذلك فيها، وهو عند الشافعي اثنان وثلاثون يومًا وساعة. لأنها إذا طلقت طاهرًا فحاضت بعد ساعة ثم حاضت يومًا وليلة- وهو أقل الحيض- ثم طهرت خمسة عشر يومًا- وهو أقل الطهر- ثم حاضت مرة أخرى يومًا وليلة، ثم طهرت خمسة عشر ثم رأت الدم، فقد انقضت عدتها لحصول ثلاثة أطهار. فمتى ادعت هذا أو أكثر منه قبل قولها، وكذلك إذا كانت حاملًا فادعت سقوط الولد كان القول قولها لأنها على أصل أمانتها ولهذا قال سبحانه: {ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن} فأكثر المفسرين قالوا: إن الكتمان راجع إلى الحبل والحيض معًا.
وذلك أن المرأة لها أغراض كثيرة في كتمانهما. أما كتمان الحمل فإذا كتمت الحمل قصرت مدة عدتها فتتزوج بسرعة، وربما كرهت مراجعة الزوج الأول، وربما أحبت التزوج بزوج آخر وأحبت أن تلصق ولدها بالزوج الثاني. وأما كتمان الحيض فغرضها فيه أن المرأة إذا طلقها الزوج وهي من ذوات الأقراء، فقد تحب تطويل عدتها لكي يراجعها الزوج الأول، وقد تحب تقصير عدتها لتبطل رجعته، فإذا حاضت أولًا فكتمته ثم أظهرت عند الحيضة الثانية أن ذلك أول حيضها فقد طولت العدة، وهكذا إن كتمت الحيضة الثالثة. وإذا كتمت أن حيضها باق فقد قطعت الرجعة على زوجها. وقيل: المراد النهي عن كتمان الحبل فقط لأن المخلوق في الأرحام هو الحبل لا الحيض، ولأن حمل المعنى على ما هو شريف أولى لقوله تعالى: {هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء} [آل عمران: 6] وقيل: المراد النهي عن كتمان الحيض لأن الآية وردت عقيب ذكر الأقراء ولم يتقدم ذكر الحمل. وقيل: يجوز أن يراد اللائي يبغين إسقاط ما في بطونهن من الأجنة فلا يعترفن به ويجحدنه لذلك، فجعل كتمان ما في أرحامهن كناية عن إسقاطه. وفي قوله: {إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر} تعظيم لفعلهن، وإن من آمن بالله وبعقابه لا يجترئ على مثله من العظائم. وفيه أن من جعل أمينًا في شيء فخان فيه فأمره عند الله شديد. الحكم الثاني للطلاق الحكم الثاني للطلاق: الرجعة وذلك قوله: {وبعولتهن أحق بردهن} والبعل الزوج والجمع البعولة. والتاء لتأكيد التأنيث في الجماعة كصقورة. وليس هذا في كل جمع وإنما هو مقصور على السماع. ويقال للمرأة أيضًا بعل وبعلة كما يقال زوج وزوجة والبعل: السيد المالك. يقال: مَنْ بعل هذه الناقة؟ أي مَنْ ربها وصاحبها؟ ويجوز أن يراد بالبعولة المصدر من قوله بعل حسن البعولة وعلى هذا فالمضاف محذوف أي أهل بعولتهن أحق بردهن برجعتهن. قال تعالى في موضع: {ولئن رددت إلى ربي} [الكهف:36] وفي موضع آخر {ولئن رجعت} [فصلت: 50] فكأنه يردها من التربص إلى خلافه، ومن الحرمة إلى الحل في ذلك أي في مدة التربص، لأنه إذا انقضى ذلك الوقت بطل حق الرد والرجعة. وإنما تكون البعولة أحق عند الله تعالى برجعتهن إن أرادوا إصلاحًا لما بينهم وبينهن وإحسانًا إليهن لا الضرار وتطويل العدة كما في قوله: {ولا تمسكوهن ضرارًا لتعتدوا} فلو راجعها لقصد المضارة استوجب من الله العقاب، وإن صحت رجعته شرعًا لأنا نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر. فإن قيل: كيف جعلوه أحق بالرجعة كأن للنساء حقًا فيها؟ فالجواب أن الرجل إن أراد الرجعة وأبتها المرأة وجب إيثار قوله على قولها فهذا هو المعنى بالأحقية أو نقول: إنهن إن كتمن ما في أرحامهن لأجل أن يتزوّج بهن آخر، فإذا فعلن ذلك كان الزوج الأول أحق بردهن، وإن ثبت للزوج الثاني حق في الظاهر ولهن من الحق على الرجال مثل الذي للرجال عليهن بالمعروف بالوجه الذي لا ينكر في الشرع وعادات الناس فلا يكلفنهم ما ليس لهن ولا يكلفونهن ما ليس لهم.
والمراد بالمماثلة مماثلة الواجب في كونهما من الحسنة لا في جنس الفعل. فإذا غسلت ثيابه أو خبزت لا يجب عليه أن يفعل نحو ذلك ولكن يقابله بما يليق بالرجال. قال أبو هريرة: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي النساء خير؟ قال: «التي تسره إذا نظر وتطيعه إذا أمر ولا تخونه في نفسها وماله بما يكره» وفي حديث حجة الوداع «ألا إن لكم على نسائكم حقًا ولنسائكم عليكم حقًا فحقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن» وعن ابن عباس أنه قال: إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي لقوله تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن} وقيل: معنى الآية ولهن على الزوج من إرادة الإصلاح عند المراجعة مثل ما عليهن من ترك الكتمان. {وللرجال عليهن درجة} زيادة في الحق وفضيلة وهي واحدة الدرجات الطبقات من المراتب. أصلها من درج الرجل. والضب يدرج دروجًا أي مشى ودرج أي مضى لسبيله. ودرج القوم إذا انقرضوا. وفي المثل أكذب من دبَّ ودرج أي أكذب الأحياء والأموات. وقد فضل الله الرجال على النساء في أمور: في العقل وفي الدية وفي الميراث وفي نصيبه من المغنم، وفي صلاحية الإمامة والقضاء والشهادة، وفي أن له أن يتزوج عليها ويتسرى وليس لها ذلك، وفي أن له أن يطلقها وإذا طلقها راجعها شاءت المرأة أم أبت ولا قدرة للمرأة على التطليق ولا على الرجعة فإذن المرأة كالأسير العاجز في يد الرجل ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «استوصوا بالنساء خيرًا فإنهن عندكم عوان» وفي خبر آخر اتقوا الله الضعيفين اليتيم والمرأة وذلك أن من كانت نعمة الله عليه أكثر كان صدور الذنب عنه أقبح، واستحقاقه للزجر أشد، وقيل: بل الغرض من الآية أن فوائد الزوجية هي السكن والازدواج والألفة والمودة واشتباك الأنساب واستكثار الأعوان والأحباب وحصول اللذة، وكل ذلك مشترك بين الجانبين، بل يمكن أن يقال: نصيب المرأة منها أوفر. ثم إن الزوج اختص بأنواع من الكلفة وهي التزام المهر والنفقة والذب عنها والقيام بمصالحها، فيكون وجوب الخدمة على المرأة أشد رعاية لهذه الحقوق الزائدة فيكون هذا كقوله تعالى: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم} [النساء: 34] وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لو أمرت أحدًا بالسجود لغير الله لأمرت المرأة بالسجود لزوجها» {والله عزيز حكيم} غالب لا يمنع مصيب في أفعاله، وأحكامه لا يتطرق إليها احتمال العبث والسفه والغلط والباطل.
الحكم الثالث للطلاق: هو الطلاق الذي يثبت فيه الرجعة. وذلك أن الرجل في الجاهلية كان يطلق امرأته ثم يراجعها قبل أن تنقضي عدتها، ولو طلقها ألف مرة كانت القدرة على المراجعة ثابتة له. فجاءت امرأة إلى عائشة فشكت أن زوجها يطلقها ويراجعها يضارها بذلك، فذكرت عائشة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل: {الطلاق مرتان} فعلى هذا تكون الآية متعلقة بما قبلها. والمعنى أن الطلاق الرجعي مرتان ولا رجعة بعد الثلاث. وهذا تفسير من جوز الجمع بين الطلقات الثلاث وهو مذهب الشافعي وهو أليق بنظم الكلام لأنه تعالى بيّن في الآية الأولى أن حق الرجعة ثابت للزوج ولم يذكر أن ذلك الحق ثابت دائمًا أو إلى غاية معينة فكان ذلك كالمجمل أن العام فيفتقر إلى مبين أو مخصص، فذكر عقيبه أن الطلاق المعهود السابق الذي يثبت فيه للزوج حق الرجعة هو أن يوجد طلقتان فقط، فإذا وصلت التطليقة إلى هذه الغاية بطل حق الرجعة. والطلاق بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم. وقيل: إن هذا كلام مبتدأ والمعنى: أن التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة ولم يرد بالمرتين التثنية ولكن التكرير كقوله تعالى: {ثم ارجع البصر كرتين} [الملك: 4] أي كرة بعد كرة، وقولهم لبيك وسعديك. وهذا التفسير قول من قال: الجمع بين الثلاث حرام. وزعم أبو زيد الدبوسي في الأسرار أن هذا هو قول عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعمران بن الحصين وأبي موسى الأشعري وأبي الدرداء وحذيفة رضي الله عنهم، ويؤكده العدول عن لفظ الأمر وهو طلقوا مرتين أو دفعتين إلى لفظ الخبر كما مر في قوله: {والمطلقات يتربصن} ثم من هؤلاء من قال: لو طلقها ثنتين أو ثلاثًا لا يقع إلا واحدة وهذا هو الأقيس، واختاره كثير من علماء أهل البيت لأن النهي يدل على اشتمال المنهي عنه على مفسدة راجحة، والقول بالوقوع سعي في إدخال تلك المفسدة في الوجود ومنهم من قال:- وهو اختيار أبي حنيفة- إنه وإن كان محرمًا إلا أنه يقع ويكون بدعة، والسنة أن لا يوقع عليها إلا واحدة في طهر لم يجامعها فيه. وهذا منه بناء على أن النهي لا يدل على الفساد، ومما يؤيد مذهب الشافعي حديث العجلاني الذي لاعن امرأته فطلقها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه، ومما يؤكد مذهب أبي حنيفة حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالًا فتطلقها لكل قرء تطليقة.
وأما قول: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} أي أمركم بعد الرجعة أو بعد معرفة كيفية التطليق أحد هذين. فالتسريح الإرسال والإطلاق والإمساك نقيضه. ومعنى الإمساك بالمعروف هو أن يراجعها لا على قصد المضارة بل على قصد الإصلاح ومعنى التسريح بإحسان قيل: هو أن يوقع عليها الطلقة الثالثة. روي أنه لما نزل قوله تعالى: {الطلاق مرتان} قيل له صلى الله عليه وسلم: فأين الثالثة؟ فقال: هو قوله: {أو تسريح بإحسان} وقيل: هو أن يترك المراجعة حتى تبين بانقضاء العدة. ويروى عن الضحاك والسدي وهو أقرب لولا الخبر الذي رويناه لأن الفاء في قوله: {فإن طلقها} تقتضي وقوع هذه الطلقة متأخرة عن ذلك التسريح. فلو كان المراد بالتسريح هو الطلقة الثالثة لكان قوله: {فإن طلقها} طلقة رابعة وإنه غير جائز. وأيضًا لو حملنا التسريح على ترك المراجعة كانت الآية متناولة لجميع الأقسام، لأنه بعد الطلقة الثانية إما أن يراجعها وهو قوله: {فإمساك بمعروف} أو لا يراجعها بل يتركها حتى تنقضي عدتها وتحصل البينونة وهو قوله: {أو تسريح بإحسان} أو يطلقها وذلك قوله: {فإن طلقها} فلو جعلنا التسريح طلاقًا لزم إهمال أحد الأقسام وتكرير بعضها. وأما الحكمة في إثبات حق الرجعة فهي أن النعم مجهولة إذا فقدت عرفت، فلو كانت الطلقة الواحدة مانعة عن الرجعة فربما ظهرت المحبة بعد المفارقة وعظمت المشقة. ثم إن إكمال التجربة لا يحصل بالمرة الواحدة فلهذا ثبت حق المراجعة بعد المفارقة مرتين ليجرب الإنسان أحوال قلبه، فإن كان الأصلح له إمساكها راجعها وأمسكها بالمعروف، وإن كان الأصلح تسريحها سرحها على أحسن الوجوه وهو أن يؤدي حقوقها المالية، ولا يذكرها بعد المفارقة بسوء ولا ينفر الناس عنها، وهذا التدريج والترتيب يدل على كمال رأفته بعبده.
الحكم الرابع من أحكام الطلاق: بيان الخلع وذلك قوله: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا} وسبب ارتباط هذا بما قبله أنه تعالى لما أمر بالتسريح مقرونًا بإحسان بيَّن عقيبه أن من جملة الإحسان أنه إذا طلقها لا يأخذ منها شيئًا مما أعطاها من المهر والثياب وسائر ما تفضل به عليها، لأنه ملك بضعها واستمتع بها في مقابلة ما أعطاها إلا إذا فارقها على عوض ويدخل فيه النهي من أن يضيق عليها ليلجئها إلى الافتداء كما قال في سورة النساء {ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن} [النساء: 19] والخطاب في قوله: {ولا يحل لكم} للأزواج وفي قوله: {فإن خفتم} للأئمة والحكام. ويجوز أن يكون الخطاب الأول أيضًا للأئمة لأنهم الذين يأمرون بالأخذ والإيتاء عند الترافع إليهم فكأنهم الآخذون والمؤتون روي أن الآية نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أبي. وفي سنن أبي داود أن المرأة كانت حبيبة بنت سهل الأنصارية، كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس وكانت تبغضه أشد البغض وكان يحبها أشد الحب. فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: فرق بيني وبينه، والله ما أعيب عليه في دين ولا خلق ولكني أكره الكفر في الإسلام ما أطيقه بغضًا إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة فإذا هو أشدهم سوادًا وأقصرهم قامةً وأقبحهم وجهًا. فقال ثابت: مرها فلترد علي الحديقة التي أعطيتها، فقال لها: ما تقولين؟ قالت: نعم وأزيده. فقال صلى الله عليه وسلم: لا، حديقته فقط. ثم قال لثابت: خذ منها ما أعطيتها وخل سبيلها ففعل، وكان ذلك أول خلع في الإسلام. ومعنى قوله: {إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله} إلا أن يخاف الزوجان ترك إقامة حدود الله فيما يلزمهما من مواجب الزوجية واختلفوا في مقدار ما يجوز به الخلع. فعن الشعبي والزهري والحسن وعطاء وطاوس أنه لا يجوز أن يأخذ أكثر مما أعطاها وهو قول علي كرم الله وجهه لقوله تعالى: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا} ثم قال: {فلا جناح عليهما} أي فلا جناح على الرجل فيما أخذ، ولا عليها فيما أعطت. ومعنى {فيما افتدت به} فيما افتدت نفسها واختلعت به فوجب أن يكون هذا راجعًا إلى ما آتاها، ولقوله صلى الله عليه وسلم لا حديقته فقط. حين قالت جميلة: نعم وأزيده. ولأن ذلك إجحاف بجانب المرأة وضرار بالمرأة بعدما استبيح من بضعها ولهذا قال سعيد بن المسيب: لا يأخذ إلا دون ما أعطاها حتى يكون الفضل له. وأما سائر الفقهاء فإنهم قالوا: الخلع عقد معاوضة فينبغي أن لا يتقدر بمقدار معين. فكما أن للمرأة عند النكاح أن لا ترضى إلا بالصداق الكثير، فكذلك للزوج أن لا يرضى عند المخالعة إلا بالبذل الكثير لاسيما وقد أظهرت الاستخفاف بالزوج حيث أظهرت بغضه وكراهته، ويتأكد هذا بما روي أن امرأة نشزت على زوجها فرفعت إلى عمر فأباتها في بيت الزبل ثلاث ليال ثم دعاها فقال: كيف وجدت مبيتك؟ قالت: ما بت منذ كنت عنده أقر ليعين منهن. فقال عمر لزوجها: اخلعها ولو بقرطها أي حتى قرطها. ولهذا قال قتادة يعني بمالها كله. وقيل: هو من قولهم خذه ولو بقرطي مارية وذلك فيهما درّتان قيمتهما أربعون ألف دينار. ويصح الخلع في حالتي الشقاق والوفاق عند أكثر المجتهدين لقوله تعالى: {فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا} [النساء: 4] فإذا جاز لها أن تهب مهرها من غير أن يحصل لنفسها شيئًا بإزاء ما بذلت، كان ذلك في الخلع الذي تصير بسببه مالكة لنفسها أولى.
وذهب الزهري والنخعي وداود إلى أنه لا يباح الخلع إلا عند الغضب والخوف من أن لا يقيما حدود الله كما في الآية، وإن وقع الخلع في غير هذه الحالة فالخلع فاسد. والجمهور على أنه لا كراهة في الخلع إن جرى في حال الشقاق، أو كانت تكره صحبته لسوء خلقه أو دينه كما في الآية، أو وقع وتحرجت عن الإخلال ببعض حقوقه لما بها من الكراهة فافتدت ليطلقها، أو ضربها الزوج تأديبًا فافتدت، أو منعها حقها من النفقة وغيرها فافتدت لتتخلص منه وإن كان الزوج يكره صحبتها فأساء العشرة ومنعها بعض حقها حتى ضجرت وافتدت، فالخلع مكروه وإن كان نافذًا والزوج مأثوم بما فعل. فالخلع المباح هو أن تكون المرأة بحيث تخاف الفتنة على نفسها والزوج يخاف أناه إذا لم تطعه اعتدى عليها. ويجوز أن يكون الخوف بمعنى الظن كما سبق في قوله: {فمن خاف من موصٍ جنفًا} [البقرة: 182] ومن قرأ: {إلا أن يخافا} على البناء للمفعول جعل {ألا يقيما} بدلًا من ألف الضمير بدل الاشتمال مثل خيف زيد تركه إقامة حدود الله ثم الفرقة الحاصلة على العوض إن كان بلفظ الطلاق فهو طلاق، وإن لم يجر إلا لفظ الخلع فللشافعي فيه قولان: الجديد أنه طلاق ينتقص به العدد وإذا خلعها ثلاث مرات لم ينكحها إلا بمحلل، ويروى هذا عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم وبه قال أبو حنيفة ومالك واختاره المزني ووجه بأنها فرقة لا يملكها غير الزوج فيكون طلاقًا كما لو قال: أنت طالق على كذا. ولأنه لو كان فسخًا لما صح بالزيادة على المهر المسمى كالإقالة في البيع. وإذا خالعها ولم يذكر المهر وجب أن يرد عليها المهر كالإقالة فإن الثمن يجب رده وإن لم يذكراه. والقديم أنه فسخ لا ينتقص به العدد ويجوز تحديد النكاح بعد الخلع من غير حصر. ويروى هذا عن ابن عمر وابن عباس قالوا: لأنه لو كان طلاقًا وقد قال عقيب ذلك {فإن طلقها فلا تحل له من بعد} لكان الطلاق أربعًا، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لثابت في مخالعته امرأته ولم يستكشف عن الحال مع أن الطلاق في زمان الحيض وفي الطهر الذي حصل الجماع فيه حرام، ولما روى عكرمة عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس لما اختلعت منه جعل النبي صلى الله عليه وسلم عدتها حيضة ولو كانت مطلقة لم يقتصر لها على قرء واحد {تلك} أي المذكورات من أحكام الطلاق {حدود الله فلا تعتدوها} فلا تتجاوزوا عنها {ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون} والظالم اسم ذم وتحقير. فوقوع هذا الاسم عليه يكون جاريًا مجرى الوعيد.
وكيف لا والظالم ملعون {ألا لعنة الله على الظالمين} ثم إنه ظلم من الإنسان على نفسه حيث أقدم على المعصية، وظلم على الغير أيضًا بتقدير أن لا تتم المرأة عدته أو كتمت شيئًا مما خلق في رحمها، أو ترك الرجل الإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان، أو أخذ من جملة ما آتاها شيئًا لا بسبب نشوز من جهة المرأة.
الحكم الخامس من أحكام الطلاق: بيان أن الطلقة الثالثة قاطعة لحق الرجعة وذلك قوله: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره} والسبب في إيقاع آية الخلع بين آية الرجعة وبين هذه بعد ما مر من مناسبتها للتسريح بإحسان، هو أن الرجعة والخلع لا يصحان إلا قبل الطلقة الثالثة، ومعنى الآية فإن طلقها مرة ثالثة بعد المرتين فلا تحل له من بعد ذلك التطليق حتى تنكح أي تتزوج غيره. والنكاح يسند إلى المرأة كما يسند إلى الرجل كالتزوج فيقال: فلانة ناكح في بني فلان أي لها زوج منهم. هذا عند من يفسر قوله: {الطلاق مرتان} بالطلاق الرجعي. وأما عند من يفسره بأن التطليق الشرعي هو الذي يوقع على التفريق. فالمعنى عنده أنه إن طلقها الطلاق الموصوف بالتكرار في قوله: {الطلاق مرتان} واستوفى نصابه {فلا تحل له من بعد} ذلك {حتى تنكح زوجًا غيره}. ومذهب جمهور المجتهدين أن النكاح هاهنا بمعنى الوطء، لأن قوله: {زوجًا} يدل على العقد. وقد نقلنا هذا عن أبي علي فيما سلف في تفسير قوله: {ولا تنكحوا المشركات} [البقرة: 221] ويؤيد هذا ما روي عن عائشة أن امرأة رفاعة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن رفاعة طلقني فبت طلاقي وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني. وإن ما معه مثل هدبة الثوب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك». كنى بالعسيلة عن لذة الجماع وإنما أنث لأن من العرب من يؤنث العسل. ويروى أنها لبثت ما شاء الله ثم رجعت فقالت: إنه قد كان مسني فقال لها: كذبت في قولك الأول فلن أصدقك في الآخر، فلبثت حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتت أبا بكر فقالت: أرجع إلى زوجي الأول فقال: قد عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لك ما قال فلا ترجعي إليه. فلما قبض أبو بكر قالت مثله لعمر فقال: إن أتيتني بعد مرتك هذه لأرجمنك فمنعها. وأيضًا المقصود من توقيت حصول الحل على هذا الشرط زجر الزوج عن الطلاق لأن الغالب أن الزوج يستنكر أن يستفرش زوجته رجل آخر ولهذا قال بعض أهل العلم: إنما حرم الله على نساء النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكحن زوجًا غيره لما فيه من الغضاضة.
ومعلوم أن هذا الزجر إنما يحصل بتوقيف الحل على الدخول، فأما مجرد العقد فليس فيه زيادة نفرة فلا يصلح جعله مانعًا وزاجرًا. ثم قال الشافعي: إذا طلق زوجته واحدة أو ثنتين ثم نكحت زوجًا آخر وأبانها ثم عادت إلى الأول بنكاح جديد لم يكن له عليها إلا طلقة واحدة وهي التي بقيت من الطلقات، لأن هذه طلقة ثالثة من حيث إنها وجدت بعد طلقتين، والطلقة الثالثة توجب الحرمة الغليظة، وقال أبو حنيفة: بل يملك عليها ثلاثًا كما لو نكحت زوجًا بعد الثلاث وإذا تزوج الغير بالمطلقة ثلاثًا على أنه إذا أحلها للأول بأن أصابها فلا نكاح بينهما فهذا متعة بأجل مجهول وهو باطل. ولو تزوجها بشرط أن يطلقها إذا أحلها للأول فقولان: أحدهما لا يصح، والثاني يصح ويبطل الشرط وبه قال أبو حنيفة. ولو تزوجها مطلقًا مضمرًا أنه إذا أحلها طلقها فالنكاح صحيح ويكره ذلك ويأثم به. وقال مالك وأحمد والثوري: هذا النكاح باطل. وحيث حكمنا بفساد النكاح فالوطء لا يقع به التحليل على الأصح. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن المحلل والمحلل له» وعن عمر: لا أوتي بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما. {فإن طلقها} أي الزوج الثاني الذي تزوجها بعد الطلقة الثالثة {فلا جناح عليهما} على المرأة المطلقة والزوج الأول في {أن يتراجعا} بنكاح جديد إلى ما كانا عليه من النكاح فهذا تراجع لغوي وظاهر الآية يقتضي أن يحل للزوج الأول هذا التراجع عقيب ما يطلقها الزوج الثاني من غير عدة بدلالة فاء التعقيب في قوله: {فلا جناح عليهما} ولهذا ذهب سعيد بن المسيب إلى أن النكاح هاهنا بمعنى العقد، وأن التحليل يحصل بمجرد العقد لأن الوطء لو كان معتبرًا لكانت العدة واجبة. والجواب أن الآية مخصوصة بقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن} {إن ظنا أن يقيما حدود الله} إن كان في ظنهما وفي عزيمتهما أنهما يقيمان حقوق الزوجية، ولم يقل إن علما، ولا يجوز أن يفسر الظن هاهنا بالعلم لأن اليقين في الاستقبال مغيب عن الإنسان، فإن لم يحصل هذا الظن وخافا عند المراجعة من نشوز منها أو إضرار منه فالرجوع مذموم إلا أنه يصح شرعًا. من قرأ: {نبينها} بالنون فمن طريقة الالتفات والنون للتعظيم، ومن قرأ بالياء فظاهر وصيغة المضارع أريد بها هاهنا الحال فلا إشكال. وجوز بعضهم أن يكون المراد بها الاستقبال، وذلك أن النصوص التي تقدمت أكثرها عامة يدخل فيها التخصيص وذلك يعرف بالسنة. فكان المراد- والله أعلم- إن هذه الأحكام التي تقدمت هي حدود الله، وسيبينها الله على لسان نبيه كمال البيان فهو كقوله تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس} [النحل: 44] وإنما خص البيان بالعلماء لأنهم هم المنتفعون بذلك. ثم إنه تعالى لما بين الأحكام المهمة للطلاق استأنف لحكمي الإمساك والتسريح ببيانين آخرين في آيتين متعاقبتين، لأن جملة الأمر في الطلاق يؤل إلى أحد هذين: الأول قوله سبحانه: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن} أي آخر عدتهن وشارفن منتهاها. والأجل يقع على المدة كلها وعلى آخرها. يقال لعمر الإنسان أجل، وللموت الذي ينتهي به أجل، ويتسع في البلوغ أيضًا يقال: بلغ البلد إذا شارفه وداناه، ويقول الرجل لصاحبه: إذا بلغت مكة فاغتسل بذي طوى يريد به مشارفة البلوغ. فهذا من باب المجاز الذي يطلق فيه اسم الكل على الأكثر، ولأنه قد علم أن الإمساك بعد تقضي الأجل لا وجه له لأنها بعد تقضيه غير زوجة له وفي غير عدة منه فلا سبيل له عليها {فأمسكوهن بمعروف} راجعوها من غير توخي ضرار بالمراجعة {أو سرحوهن بمعروف} خلوها حتى تنقضي عدتها ونبين. ولما أمر بعد الطلاق بأحد الأمرين، استأنف حكم كل منهما فقدم حكم الإمساك على طريقة النهي لا الأمر، لأن المأمور يمتثل بمرة واحدة فلعله يمسكها بمعروف في الحال لكن في قلبه أن يضارها في الاستقبال، والمنهي لا يمتثل إلا إذا انتهى في كل الأوقات فيكون أدل على الدوام والثبات فقال: {ولا تمسكوهن ضرارًا} مضارة وتشمل موجبات النفرة والعداوة كلها، وروي أن الرجل كان يطلق المرأة ثم يدعها فإذا قارب انقضاء القرء الثالث راجعها، وهكذا يفعل بها في العدة تسعة أشهر أو أكثر. وقيل: الضرار سوء العشرة. وقيل: تضييق النفقة وكانوا يفعلون في الجاهلية أكثر هذه الأفعال رجاء أن تختلع المرأة منه بماله. ومعنى قوله: {لتعتدوا} أي لا تضاروهن ليكون عاقبة أمركم الاعتداء كقوله: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوًا} [القصص: 8] أو لا تضاروهن على قصد الاعتداء عليهن فتكونون متعمدين لتلك المعصية. وقيل: لتلجؤهن إلى الافتداء {ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه} بتعريضها لعقاب الله، أو بتفويته عليها منافع الدنيا والدين. أما الدنيا فلأنه إذا اشتهر بتلك المعاملة لم يرغب في التزويج منه ولا في معاملته أحد، وأما منافع الدين فالثواب الحاصل على حسن العشرة مع الأهل وعلى الانقياد لأحكام الله تعالى وتكاليفه {ولا تتخذوا آيات الله هزوًا} فمن أقربائه يجب طاعة الله وطاعة رسوله ثم وصلت إليه هذه التكاليف المذكورة في أبواب العدة والرجعة والخلع وترك المضارة ولم يتشمر لأدائها كان كالمستهزئ بها. أو المراد لا تتهاونوا بتكاليف الله كما يتهاون بما يكون من باب الهزء والعبث. وعن أبي الدرداء: كان الرجل يطلق في الجاهلية ويعتق ويتزوج ويقول: كنت لاعبًا. فنزلت فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: الطلاق والنكاح والرجعة» وروي: «الطلاق والعناق والنكاح».
وعن عطاء: المعنى أن المستغفر من الذنب إذا كان مصرًا عليه أو على مثله كان كالمستهزئ بآيات الله.
ثم إنه تعالى لما رغبهم في أداء التكاليف بما ذكر من التهديد رغبهم أيضًا في أدائها بأن ذكرهم أقسام نعمه عليهم. فبدأ أولًا بذكرها على الإجمال فقال: {واذكروا نعمة الله عليكم} وهذا يتناول كل نعمة لله على العبد في الدنيا والدين وقيل: المراد بها الإسلام ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم خصص نعم الدين بالذكر لشرفها فقال: {وما أنزل عليكم} عطفًا على النعمة {من الكتاب والحكمة} من القرآن والسنة وذكرها مقابلتها بالشكر والقيام بحقها {يعظكم به} في محل النصب حالًا مما أنزل أو من فاعل أنزل. ويحتمل أن يكون {ما أنزل} الصلة والموصول مبتدأ، وقوله: {يعظكم به} خبرًا {واتقوا الله} في أوامره ونواهيه {واعلموا أن الله بكل شيءٍ عليم} فيه وعد ووعيد وترغيب وترهيب الثاني: وهو حكم المرأة المطلقة بعد انقضاء العدة قوله عز من قائل: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن} بلوغ الأجل هاهنا على الحقيقة. عن الشافعي: دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين {فلا تعضلوهن} لا تحبسوهن ولا تضيقوا عليهن. وأصل العضل الضيق ومنه عضلت الدجاجة، إذا نشب بيضها فلم يخرج، وعضلت الأرض بالجيش إذا ضاقت بهم لكثرتهم، وأعضل الدواء الأطباء إذا أعياهم، والعضلة اللحمة المتجمعة المكتنزة في عصبة. والخطاب للأزواج الذين يمنعون نساءهم بعد انقضاء العدة ظلمًا وقسرًا ولحمية الجاهلية من أن ينكحن أزواجهن الذين يرغبن فيهم ويصلحون لهن إذا تراضوا- اي الرجال والنساء- تراضيًا واقعًا بينهم بالمعروف بما يحسن في الدين والمروءة من الشرائط كالعقد الحلال والمهر الجائز والشهود والعدول. وقيل: بمهر المثل وفرعوا عليه مسألة فقهية توافق مذهب أبي حنيفة وهي: أنها إذا زوجت نفسها بأقل من مهر مثلها فالنكاح صحيح لكن للولي أن يعترض عليها بسبب النقصان عن المهر دفعًا للشين عن الأولياء ولأن نساء العشيرة يتضررن بذلك فقد يعتبر مهورهن بمهرها.
وزعم كثير من المفسرين أن الخطاب في قوله: {فلا تعضلوهن} للأولياء لما روى البخاري في صحيحه أن معقل بن يسار قال: كانت لي أخت تخطب إلي وأمنعها من الناس. فأتاني ابن عم لي فأنكحتها إياه فاصطحبا ما شاء الله ثم طلقها طلاقًا له رجعة، ثم تركها حتى انقضت عدتها. فلما خطبت إلي أتاني يخطبها مع الخطاب فقلت له: خطبت إلي فمنعتها الناس وآثرتك بها وزوجتك ثم طلقتها طلاقًا لك رجعة، ثم تركتها حتى انقضت عدتها، فلما خطبت إلي أتيتني تخطبها مع الخطاب، والله لا أنكحتهكها أبدًا. قال: ففيَّ نزلت هذه الآية فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه. وعن مجاهد والسدي أن جابر بن عبد الله كانت له بنت عم فطلقها زوجها وأراد رجعتها بعد العدة فأبى جابر فنزلت.
وأجيب بأن رعاية نظم كلام الله أولى من محافظة خبر الواحد، ولا يخفى تفكك النظم لو قيل: وإذا طلقتم النساء أيها الأزواج فلا تعضلوهن أيها الأولياء لأنه لا يبقى بين الشرط والجزاء مناسبة، قالوا: ليس بعد انقضاء العدة قدرة للزوج على عضل المرأة. والجواب أنه قد يقدر على الظلم وقد يجعد الطلاق أو يدعي أنه كان راجعها في العدة، أو يدس إلى من يخطبها بالوعيد والتهديد، أو ينسبها إلى أمور تنفر الناس عنها. قالوا: {أن ينكحن أزواجهن} يدل على أن الأولياء كانوا يمنعونهن من العود إلى أولئك الذين كانوا أزواجًا لهن. والجواب أن العرب قد تسمي الشيء بما يؤل إليه. فالمراد من يردن أن يتزوّجنهم فيكونوا أزواجًا لهن. وقيل: الوجه أن يكون خطابًا للناس أي لا يوجد فيما بينكم عضل، لأنه إذا وجد بينهم وهم راضون كانوا في حكم العاضلين. ثم إن الشافعي تمسك بالآية في أن النكاح لا يجوز إلا بولي، لأنه لو جاز للمرأة أن تزوج نفسها أو توكل من يزوجها لما كان الولي قادرًا على عضلها من النكاح، وهذا مبني على أن الخطاب في {لا تعضلوهن} للأولياء وفيه ما فيه. ولو سلم فلم يجوز أن يكون الاستبداد الشرعي حاصلًا لهن، ولكن يمنعها الولي من بعض الجهات التي قلنا في الزوج. وأيضًا فثبوت العضل في حق الولي ممتنع لأنه مهما عضل انعزل، وإذا انعزل لا يبقى لعضله أثر. وتمسك أبو حنيفة بقوله تعالى: {أن ينكحن أزواجهن} على أن النكاح بغير ولي جائز، وذلك أنه تعالى اضاف النكاح إليها إضافة الفعل إلى فاعله والتصرف إلى مباشره، ونهى الولي عن منعها من ذلك. ولو كان ذلك التصرف فاسدًا لما نهى الولي عن منعها منه، ويتأكد هذا النص بقوله: {حتى تنكح زوجًا غيره} وأجيب بأن الفعل كما يضاف إلى المباشر فقد يضاف أيضًا إلى المتسبب مثل بنى الأمير دارًا وإنما ذهبنا إلى هذا وإن كان مجازًا لدلالة الحديث على بطلان هذا النكاح هذا. وأما قوله: {ذلك يوعظ به} فالخطاب فيه إما للرسول أو لكل أحد على الانفراد كما أن الخطاب في قوله في سورة الطلاق {ذلكم يوعظ به من كان} [الطلاق: 2] للمكلفين مجموعين. وقوله: {من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر} تخصيص لهم بالوعظ لأنهم هم المنتفعون بذلك. ومن استدل بهذا على أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشريعة يكذبه التكاليف العامة كقوله: {ولله على الناس حج البيت} وأيضًا لا يلزم من تخصيص العظة بالمؤمنين تخصيص التكليف بهم {ذلكم أزكى لكم} أي أنمى وهو إشارة إلى استحقاق الثواب الدائم، وأطهر أي من أدناس الآثام {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} لأن علمه تعالى فعلي كامل وعلمنا انفعالي ناقص.
فقد تخفى المصلحة والعاقبة علينا، أو تشتبه المصلحة بالمفسدة فلا صلاح للمكلف إلا في طاعة علام الغيوب ليحوز سعادة الدارين والله ولي التوفيق. اهـ.